كاد الدوار ان يعصف برأس هنا فى تلك اللحظة
العصيبة حين فاجأتها والدتها بزيارة غير متوقعة لمنزل باسم ، لم يمنعها من السقوط
سوى يدى سيدها التى تحيط بها من الجانبين وهو يطمأنها قائلا " خليكى هنا وما
تتحركيش ، مفيش حاجه انا هتصرف " ، دوما كانت تلك الجملة التى ينهى بها حديثه
مصدر أمان واطمئنان لقلبها ، فطوال عام كامل أثبت لها سيدها وحبيبها انه بارع فى
التصرف والخروج من المواقف العصيبة ... لكن ما لم تعلمه هنا ان باسم كان يخفى
الكثير بأعماقه وهو يرتجف من الداخل مترقبا لسر تلك الزيارة أو ما الذى سينتج عنها
... ولام نفسه مرات ومرات لأنه لم يخبر والدتها انه فى عمله وسيعود بعد ساعتين
مثلا تفاديا لهذا الموقف ، لكن السيدة كانت تبدو متأهبة وهى تخبره انها اسفل منزله
فلم تدع مجالا للكذب خاصة وان زيارتها جاءت عقب انتهاء عمله بما يزيد عن ساعة كاملة
تكفى لعودته ..
وبخطوات حاول ان يجعلها هادئة واثقة توجه الى
الباب وعيناه تجول فى الأرجاء بحثا عن أيا من متعلقات هنا ، ولما اطمأن فتح الباب
والابتسامة على وجهه تخفى ما يجول بداخله من قلق ، وبابتسامة مماثلة استقبله وجه
" حسناء " والدة هنا وهى تقول " معلش انا عارفة انها زيارة مفاجئة
بس كان لابد منها " ، كانت تلك الكلمات توحى بأهمية تلك الزيارة وتزيد من قلق
وتوجس باسم وهو يفسح الباب أمامها لتخطو الى الداخل مصطحبة معها عبيرا ساحرا خلفه
العطر الفرنسى الذى أغرق ملابسها الأنيقة ..
اغلق باسم الباب وهو يلتقط نفسا عميقا ويشير
لها تجاه صالة الضيوف وهو يقول " معلش بقا حضرتك هتقدرى انها شقة عازب "
، فردت باقتضاب وهى تجلس وتضع حقيبتها على المنضدة " مفهوم مفهوم ، مفيش
مشكلة ابدا " ، قال وهو يتجه ناحية المطبخ " حضرتك تحبى تشربى أيه ، انا
عندى بن ممتاز ، وقهوتى اكيد هتطلع احلى من قهوة هنا "
ضحكت وهى تقول " هقولها خلى بالك ، بس
مفيش مانع نجربها " ، اتجه للمطبخ بينما أخذت هى تتجول بعينيها فى أرجاء
المكان ، كان يبدو غريبا يحمل الكثير من الغموض والسحر فى ذات الوقت ، لم يكن باسم
بالنسبة لها يبدو كشاب ماجن ، ستتوقع ان ترى النساء تختفى فى شقته اسفل الأثاث او
انها سترى ثيابا داخلية نسائية مبعثرة هنا وهنا او قنينة من الخمر وغيرها ، لكنها
لا تدرى لماذا ساورها الشك تجاهه على حين غرة ، خلال الفترة الصغيرة التى عرفته
أثنائها لم تلحظ شيئا مريبا لكنها لم تستطع ان تدرك حقيقة ما يساورها من شكوك
فقررت ان تقطع الشك باليقين بتلك الزيارة علها تطفئ نيران شكوكها المتواصلة ..
عاد باسم يحمل القهوة وقدمها لها والى جوارها
جلس وهو يقول " مستنى رأيك ، قهوتى ولا قهوة هنا "
ابتسمت وهى تقول " احمد ربنا ان هنا بقت
بتعمل قهوة ، دى تطورات جديدة خالص ما كانتش موجودة ، ويظهر ان الفضل فيها يرجعلك
انت " ، رد باسم " هنا بنت ممتازة بس كل اللى محتاجله حد يفهمها ويطلع
الطاقات اللى جواها مش أكتر "
تذوقت القهوة ثم ما لبثت ان ابدت استحسانها
لمذاقها الرائع ، وهى تقول " تحفة يا باسم تسلم أيدك " وتابعت "
شوف يا باسم انا ست طول عمرى دوغرى وماليش فى اللف والدوران ، عشان كده انا هقولك
انا ليه جيتلك النهارده "
اعتدل باسم وهو يقول " اهلا بحضرتك فى
اى وقت " ، قالت حسناء " أنا شايفة بنتى يوم عن يوم بتتعلق بيك ، ويوم
عن يوم بتنجح على كل المستويات ، ودى كلها حاجات هايلة ما اقدرش انكرها ، وبالنسبة
ليك انا مش شوفتش منك اى موقف او تصرف خارج عن المألوف ... ومع ذلك " ، تنهدت
وهى تقول " انا قلقانه يا باسم ، فيك حاجه غامضة قلقانى وبسببها مش عارفة
ابقى مرتاحه ابدا ، انا قولتلك قبل كده هنا بنتى الوحيدة ، ومش هسمح لأى حد فى
الدنيا يأذيها او يتسببلها فى أذى ، انا عارفة انك مخلى بالك منها يمكن زيادة عن اللزوم كمان ، بس ده ما يمنعش انى متأكدة
رغم كل صراحتك ووضوحك معايا ان فى سر كبير ، وانا بقولك اهو يا باسم ، ايا كان
السر اللى انت مخبيه ، انا مستعدة انى اتقبله واتفهمه ، انما لو اكتشفت السر ده من
حد غيرك او بطريقتى ، ساعتها الوضع هيختلف والثقة هتتهز ، ولو الثقة اتهزت ...
حاجات كتير ممكن تتغير " .
كان باسم يتابعها بكل اهتمام وما ان انهت
حديثها حتى اعتدل قائلا " ان مقدر قلق حضرتك ، بس الاحساس اللى عندك ده ،
لانى بالنسبة لك شخصية مجهولة من شهرين بس ما كنتيش تعرفى عنى اى حاجه ، وحتى من
وقت خطوبتى لهنا وقت حضرتك ما سمحش اننا نتكلم او ندردش كتير ، يمكن ده كان يريح
المخاوف اللى جواكى ، انا زي اى شاب فى الدنيا ، ومفيش مخلوق ما عندوش اسرار ، بس
كل واحد بيقيم الأسرار دى من وجهة نظره ، يمكن اسرارى تبقى بالنسبة لك حاجات خطيرة
اوى او يمكن تبان تافهه ، وبالتالى انا مش
عارف اقول لحضرتك ايه ، انما كل اللى اقدر اقوله ان اى سؤال فى الدنيا يخطر على
بالك فى اى وقت انا مستعد لإجابته فورا وبكل وضوح ومسئول مسئولية تامة عن كل كلمة
تخرج من لسانى "
نطق باسم عباراته مستغلا اقصى مستوى من الثقة
الممكنة ، واجه عينيها خلال القاءه لكل كلمة للتأكيد على صدقه ، تابع ابتسامتها
ونظرتها التى كانت تشى بما يدور داخلها ، كانت كأى أنثى تقلق احيانا دون سبب واضح
، او يتعكر مزاجها بفعل اضطرابات فيسيولجية طارئة ، لكنها كانت ولا تزال حتى بعد
كلماته على يقين ان سرا كبيرا يخفيه عنها باسم ، سرا وثيق الصلة بأبنتها الوحيدة
هنا ...
لكنها اجابت على حديثه بابتسامه هادئة وهى
تقول " طيب تمام ، انا عجبنى ردك جدا واحنا كده متفقين ، وزى ما انا هفكر فى
حاجه اسألك عليها ، انت كمان فكر لو فى حاجه انت مخبيها وعايز تقولهالى ، صحيح
بالمناسبة شقتك لطيفة جدا ، مش هتفرجنى عليها "
كان هذا اخر طلب يتمنى باسم ان تطلبه حسناء ،
كان يأمل ان يتفادى تلك اللحظة بأى شكل .. لكن ما باليد حيلة
نهض ليتقدمها وهو يشير ناحية الممر الداخلى
حيث غرفته والحمام ووو غرفته السرية حيث تستقر هنا ،
وبعينين فاحصتين تجولت حسناء بنظرها داخل
غرفته التى توشى بالنظام والعناية التى ربما لا تتفق مع شاب يعيش بمفرده ، حتى
الحمام بدا لامعا أنيقا تفوح منه رائحة النظافة ، وتوقف نظرها عند تلك الغرفة التى
بدا بابها مهيبا وهى تلتفت ناحية باسم تسأله " الباب ده شكله غريب اوى ، انت
عامله ازاى " ، رد باسم " ده احد اسرارى الصغيرة "
رفعت حاجباها ، فتابع " انا مش هقدر
اقول انى فنان او محترف انما يمكن بحب يبقى ليا لمسة فى حاجات كتير ، فالباب كان
باب عادى ، انما انا حطيت عليه لمسات منى زى ما حضرتك شايفة ، فطلع بالشكل ده
"
ضحكت وهى تقول " ولسه ياما هنشوف اسرار
يا سى باسم " ، قالتها وهى تتجه ناحية الباب وكأنها تهم بدخول الغرفة
الغرفة السرية ...........
فى تلك اللحظة كان خالد يقود سيارته شارد
الذهن وأحد افكاره المجنونه تراوده فى اصرار ، نعم افكارا مجنونه ، فما لا يعرفه
احدا عن خالد ان خلف هذا الوقار وتلك الرصانه يكمن شيطان مجنون ، يظهر بين الحين
والأخر لينفذ احد عملياته الناجحه قبل ان يعود مستقرا فى ركن بعيد داخل روحه لا
يراه احد ، كانت تلك الفكرة المجنونه تتعلق بما كشفته عيناه وخبرته الطويلة فى
التعامل مع النساء مما رأه على بسمة ، فتلك الرجفة التى انتابت جسدها عندما صفعت
يده مؤخرتها توحى بأن الأمر قد راق لها كثيرا بقدر ما فاجأها ، حتى توترها خوفا من
الحقنة كان توترا يليق بطفلة صغيرة تترقب لحظة عقاب تتوقع أن تكون مؤلمة ، كل هذا
راق له كثيرا ، فخلال سنوات عمره خاض العديد من التجارب المشابهه بل وخاض تجارب
أكثر جموحا ،، وفى عقله ترددت الفكرة ، هل ستستجيب بسمة لخوض تجارب جموحه ولحظات
جنونه ، هل ستتخيل من الأساس ان الطبيب الرزين الوقور الذى عرفته يحمل فى جنباته
شخصية أخرى تفوق خيالها جموحا .. وهنا استقر رأيه انه سيخضعها خلال الفترة القادمة
لعدة اختبارات تكشف له المزيد عن طبيعتها وربما يكشف لها الكثير مما غاب عليها حتى
تلك اللحظة ..
" الباب مقفول " ، قالتها حسناء
وهى تلتفت تجاه باسم الذى وقف هادئا وهى تحاول ان تفتح باب غرفته السرية ، وفى
عقله دارت ألاف الأفكار لكنه استقر على ما رأه افضلها وهو يقول " ثوانى هجيب
المفتاح " ، تركها أمام الباب وهو يعود الى غرفته ويمسك بهاتفه مستغلا ان
الغرفة السرية عازلة تماما للصوت وهو يتصل بهنا قائلا " ماما عايزة تدخل
الاوضة ، استنى ورا الستارة اللى فى أول الاوضة خالص " ، كانت كلماته قصيرة
مقتضبة لكنها كفيلة لأن تتصارع دقات قلب هنا على أعلى وتيرة ممكنة وهى تكاد تسمع
صوت تلك الضربات تعلو وتعلو لتشكل موسيقى صاخبة ، ورغم ان الغرفة معزولة بالكامل
الا انها سارت على اطراف اصابعها وهى تستقر حيث أمرها ، وفى عقلها دارت ملايين
الأسئلة : كيف يمكنها أو يمكنه ان يبرر سر وجودها هنا ، ثم من الاساس كيف سيشرح
لها سر احتواء شقته على تلك الغرفة بما تحويه من أدوات ستكون بالنسبة لها أدوات
تعذيب وحشية تنتمى الى زمن النازى وغرف الجستابو المرعبة ، ولكن كل تلك الافكار
والاسئلة تبخرت وهى تسمع صوت المفتاح يدور والقفل يعود لمكانه وصوت خطوات تتلاحق
الى داخل الغرفة ، قبل أن تسمع شهقة مدوية كانت تعلم مصدرها بالطبع .... انها شهقة
خرجت من فم والدتها وعيناها تجحظان امام ما تراه ، بينما اطرق باسم انتظارا لمرور
رد الفعل المتوقع هذا ...
دق هاتف خالد وهو يصعد درجات السلم متوجها
لعيادته معلنا عن اتصالا من بسمة فأجاب قائلا " حبيبة قلبى عاملة ايه دلوقتى
" اجابت هى فى دلال " زعلانه من حبيبها اوى اوى " ، فرد هو "
هو بذمتك فى واحدة تزعل من حبيبها اصلا ، خصوصا وهى عارفه انه بيحبها وبيموت فيها
كمان " ، تنحنحت هى فى خجل وهى تقول " ايوه طبعا ، هو فى حد بيحب حد
يوجعه ويضربه كمان " ، تبدلت نبرته وهو يقول " بلاش دلع ، طمنينى الأول
انتى عاملة ايه دلوقتى ، الدوا وصلك انا كاتبلك على كل علبة المواعيد ، خلى بالك
من نفسك وخدى الدوا فى مواعيده ، المرة الجاية مش هيبقى ضرب دلع كده ، هيبقى علقة
بجد ، انتى لسه ما تعرفنيش كويس " ، انكمشت وهى ترد قائلة " انت بتخوفنى
منك ليه ، لا انا عارفاك كويس ، وانت مش هتضربنى ولا حاجه انت حبيبى مش كده ها مش
كده " ، عادت ابتسامته وهو يرد " عشان مصلحتك وعشان صحتك انا ممكن اتحول
، ده فى بلاوى مستخبية ما تستعجليش انك تشوفيها " ، ردت هى " ده اللى
لسه بقولك ما تخوفنيش ، تصدق انت كده رعبتنى " ،، رد خالد " خافى
واترعبى زى ما يعجبك طالما لمصلحتك وطالما الرعب ده هنستغله بشكل ايجابى وهيخليكى
تهتمى بصحتك اكتر وده اللى يهمنى ، والباقى سيبيه عليا "
وما ان انتهت المكالمة حتى عاود هاتفه الرنين
من جديد فتبدلت ملامحه وهو يرى اسم المتصل ، اجاب وصوته يحمل نبرة غاضبة وهو يقول
" خير يا علا مش اتفقنا الموضوع انتهى ولا ايه " ، اجابه صوتها يبكى
بمرارة وهى تقول " ارجوك يا خالد الحقنى ارجوووووك " .
حاولت حسناء ان تتمالك أعصابها قدر الإمكان
وهى تعود لمنزلها وفى رأسها تتصارع الأفكار بعد ما شاهدته داخل تلك الغرفة اللعينة
كما وصفتها ، أى مخلوق هذا الذى يبدو أمامها ملاكا بينما يخفى داخل منزله وكرا
يليق بأعتى الشياطين ، كيف يكون هذا الهادئ الرصين يملك وجها عدوانيا قاسيا بهذا
الشكل ، والادهى والأمر ان هذا الشاب قد استقر بقلب ووجدان ابنتها الوحيدة ، فهل
يمكنها ان تسلمه ابنتها ليفعل بها ما يشاء ويخرج بها كل مشاكله النفسية وعقده
الدفينة ، واذا كان هذا اول ما اكتشفته ، فربما لا يزال هناك الكثير والكثير ...
حتى كل كلماته التى رددها على مسامعها ان ما
رأته ليس شرا مستطيرا كما تتخيل ، وأنما هى ميول يشترك فيها الالاف من البشر فى كل
مكان ، وكما ان هناك من يهوون استخدام تلك الأدوات التى رأتها هناك من يهوون ان
يتم استخدام تلك الأدوات على اجسادهم ، وان مفعولها وتأثيرها لا يمكن ان يتخليه
سوى من اختبره فقط ، وعبثا حاول ان يقنعها ان استخدام تلك الأدوات ليس مؤذيا بل هو
أمنا جدا طالما بقيت فى يد من يجيد استخدامها ، كل تلك الكلمات لم تجد طريقها عبر
عقلها الذى توقف عند سؤال محدد وجهته لباسم وهى تقول " هتعمل كده فى بنتى ..
انت مجنون " فقد صدمتها أجابته وهو يقول " لو دى ميولها ايوه هعمل كده ،
ولو جاتلك فى يوم تشتكى يبقى ساعتها ليكى كل الحق ، يا هانم انا بحب هنا ، ومهما
قولتلك حضرتك مش هتتخيلى انا بحبها قد ايه ، انما كل اللى هقوله انك ما تقلقيش على
بنتك معايا ابدا ، بنتك معايا هتكون فى أمان "
كان الصراع الأزلى بين جيل يرى الحديث عن
السادية هو نوع من التجاوز والتطاول والاستهتار ، فلا ترتبط السادية فى عقله سوى
بالجنس او بالدماء والأجساد الممزقة وما يظهر فى افلام الرعب المبتذل ، وبين جيل
جاب العالم كله وهو يجلس أمام هاتفه او جهازه اللوحى ، جيل تربى على كسر التابوهات
أيا كانت قوتها وصلابتها ، وبقى فى صراع محتدم مع كلمات حفظها الاباء والامهات حول
العيب والخطأ والحرام ... أجيال منحتها التكنولوجيا الفرصة للخوض فى أعماق النفس
البشرية واكتشاف خباياها ، كما منحته الفرصة للاطلاع على كل ما يخشى الاباء
والامهات الحديث عنه او التلميح له من قريب او بعيد ، حرموهم من إجابات كافية تشبع
رغبتهم فى المعرفة ، وفقدوا ثقتهم حينما اكتشفوا ان اجاباتهم بعد اصرار والحاح
جاءت فقيرة المعلومات سطحية المستوى تنتهى دوما بعبارة لعينه : لم تكبروا هتعرفوا
.. بلاش قلة أدب .
وهنا وجد أبناء هذا الجيل انفسهم بلا سند
حقيقى سوى أجهزتهم الصغيرة ، التى تصادف ان اباءهم وامهاتهم يرونوها اجهزة معقدة
لا سبيل لفهمها ، لذا فقد تركوهم معها طوال الوقت ، وبقوا يرددون على الدوام ان
تلك الاجهزة قد أفسدت عقول الصغار ، وهم لا يدرون انهم تخلوا طواعية عن دورهم
الحقيقى ، تركوا ابناءهم وبناتهم يستبدلونهم بتلك الأجهزة التى وجدوا فيها كل
الأجابات لكل سؤال طاف بعقلهم ، اجابات بعضها يحمل الصواب وبعضها يحمل الخطا ،
واجابات أخرى تدس السم فى العسل .... وبعد ان تربى هذا الجيل متشعبا بثقافة مختلفة
ومعارف لم يدرك اباءهم وامهاتم وجودها من الأساس حدثت تلك الفجوة العميقة ....
فما كان الحديث الذى دار بين باسم وبين حسناء
سوى نموذجا واضحا لاختلاف الأجيال ، كانت ترى ما يقوله دربا من الجنون وافراطا فى
استخدام الحرية ، بل هو هرطقة واضحة ، اما هو فحاول بكل السبل ان يشرح لها ما عجز
عقلها عن استيعابه ، ودوما حين يفشل الحوار يحدث الصدام ....
فى دقائق كان خالد قد اعتذر لمرضاه بسبب ظرف
طارئ سيمنعه من توقيع الكشف الطبى عليهم اليوم ، لكنه اضطر للكشف على حالتين
عاجلتين رأى انهما لا يحتملان التأجيل ، قبل ان ينطلق مجددا بسيارته وهو يتصل بعلا
من جديد قائلا " انا فى الطريق يا علا ، اهدى بقا وفهمينى في ايه " ،
اجابها صوتها المتهدج من بين دموعها " بموت يا خالد بمووووووووت " ،
حاول ان يهدئ من ورعها ليستطلع الأمر لكنه فشل تماما أمام طوفان دموعها التى
تواصلت بلا انقطاع ، بقى معها على الخط ليتأكد انها لا تزال بخير بينما شرد عقله
بعيدا وهو يستعيد ما يربطه بعلا ، تلك المريضة التى تعرف عليها بمحض الصدفة عندما
وجد سيارتها تتأرجح على الطريق على غير هدى ولولا ستر من الله لتحول الامر الى
كارثة حقيقية قبل ان ينقذها السور الخرسانى للطريق السريع ، توقف بسيارته ومعه
الكثيرين لكنه كان اول الواصلين الى السيارة التى شاهد داخلها امرأة قد سقط رأسها
على مقود السيارة تتحرك انفاسها ببطء شديد كأنها على وشك ان تفارق الحياة ..
وبحكم خبرته كطبيب كانت نظرة واحدة لوجهها
الشاحب وعيونها الذابلة وانفها المحتقن تكفى لأن يعلم ان ما حدث كانت انخفاض حاد
فى الدورة الدموية نتيجة جرعة زائدة من المخدرات ، وبسرعة تعاون مع الأخرين على
نقلها الى مستشفى قريبة وتولى متابعتها بنفسه حتى استردت وعيها لتجده امام عينيها
يبتسم قائلا " حمد الله على سلامتك "
ومن هنا بدأت بينهم صداقة متينه تصاعدت عبر
شهور طويلة حكت لها خلالها الكثير عن حياتها وما الذى أدى بها للوصول إلى مرحلة
الأدمان ، وحكت له ان تلك كانت المرة الثالثة خلال عام واحد الذى تفقد فيه السيطرة
على سيارتها وفى كل مرة كانت تنجو بأعجوبة على عكس رغبتها الدائمة فى انهاء حياتها
للخلاص مما تعانيه من الالام ..
وفجأة توقفت دموعها واختفى صوتها عبر الهاتف
وفشلت كل محاولاته فى ان يتلقى اى ردا منها ، انهى الاتصال واتصل مجددا وقدمه
تعتصر دواسة الوقود لتنطلق السيارة تنهب الطريق نهبا وسط أبواق السيارات التى
انطلقت من كل مكان وهو يتخطى السيارة بطريقة جنونية ... وخلال دقائق خمس كان قد
وصل الى منزلها وهو يقفز على درجات السلم كفهد يطارده صياد ماهر ، لم يتلقى اى رد
على دقاته المتتاليه فأخرج سلسلة مفاتيحه يخرج من بينها مفتاحا قبع بينها طويلا
دون ان يستعمله سوى مرات قليلة ، ودس المفتاح فى الباب وهو يندفع الى الداخل يضئ
أنوار الشقة المظلمة ، لكنه تسمر فى مكانه لهول ما يراه امام عينيه ... فرغم كل
توقعاته لم يكن يتصور ان يصل الامر الى هذا الحد ....
بينما بسمة ورغم شدة مرضها الا ان الحالة
التى انتباتها كانت تجمع ما بين الدهشة والجذل ، فقد جمع خالد فى وجهة نظرها بكل
ما كانت تحلم به ، هو الهادئ الرصين المتزن امام الجميع ، وهو الجامح الذى يحمل
بداخله بذور الجموح التى ظهرت بادية عليه اليوم ، فلم يغب عنها بريق عينيه بعد ان
انتهى من اعطاءها الدواء ، كان يتأملها كأنه يتابع ردة فعلة او يختبرها ، ولم تبخل
عليه هى بمنحه إشارة الموافقة فى حديث دار بين عقول وأرواح لم تردده الالسنة ، لم
يفسد عليها تلك اللحظة السعيدة وهى تتذكر كل هذا سوى فكرة مرت بعقلها ، هل تخبره
بما حدث من قبل على يد باسم ، ام تحتفظ بسرها ولا تبوح به ابدا ،،، هى تعلم باسم
جيدا وتعلم انه لن يكشف شيئا مما دار بينهم ، لكن اهى تخدع خالد بتلك الطريقة ام
ان حياتها من قبله ملكا لها وحدها ،،، فكرة طرأت رأسها لكنها نفضتها عن عقلها فى
سرعة وهى تعلم ان امامها الكثير والكثير من المعارك ستدور رحاها فى نفسها ...
بمجرد ان عبرت هنا باب مسكنها حتى وجدت
والدتها تنتظرها فى البهو الكبير ترمقها بنظرات فاحصة لم تراها من قبل ، لقد جابت
عيونها جسدها من اسفله الى اعلاه ترتسم على وجهها ابتسامة قلقة ، تحمل وراءها
الكثير ..
تبادلا حديثا قصيرا قبل ان تدلف هنا الى
غرفتها وتنتقل منها الى حمامها الداخلى لانعاش جسدها الذى ارهقه التوتر أكثر ما
أرهقته يدى سيدها ، وتحت سيل الماء الجارى تداعت افكارها تباعا ، وهى تفكر فيما
ستفعله والدتها بعد ما اكتشفته من شخصية باسم ، فكرت فى كم الرعب الذى واجهته
اليوم ، فكرت حتى أبعد من ذلك ، هل والدتها محقة بالفعل وان السادية ما هى الى
ايذاء بدنى لا اكثر ولا اقل ، ولكن كيف وهى ترى حنانا لم تشعر به من قبل ،
واهتماما غاب عنها طويلا ، ورفقا يفوق قسوة الايدى التى تجوب بسوطها بأنحاء جسدها
...
انهت حمامها وجففت جسدها وارتدت ملابسها
الداخلية وحدها وخرجت الى غرفتها تجفف شعرها ، غاب عنها فى تلك اللحظة ان والدتها
كانت تنتظرها بالداخل كما لم تفعل من قبل ، تتأمل جسد ابنتها الذى وجدت بصمات باسم
محفورة عليه ، ورغما عنها اطلقت اهة ألم كبيرة وهى ترى جسد ابنتها كسته علامات من
كل نوع وشكل ....
حينها سقطت المنشفة من على رأس هنا ووضعت
يديها على فمها تكتم بها انفاسها المتهدجة ،،،
اما والدتها فقد نهضت من مكانها تتأمل ابنتها
عن قرب وعيونها تطلق شررا متطايرا يعلن ان المواجهه القادمة مع باسم لن تمر بسلام
..... غادرت الغرفة وهى تلتقط هاتفها وتتصل بباسم قائلة " عايزاك قدامى
حاااااااااااااالا "
وفى السماء ارتفع نذير العاصفة الاتيه لا
محالة
#يتبع
#شبح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق